المدينتان التوأمتان
تفصل المدن التوأم دائما أوردة نهرية، دلتات، مصبات أو أذرع بحرية عميقة، وعبر السنين يمكن أن تحدث العداوة فتبحث كل مدينة عن مكونات لإظهار أنها أكثر قدما أو أن لها أصلا مقدسا، أو أن واحدة كانت أصل الأخرى.
بالفعل، فبناء هذه المدن التوأم يأخذ أشكالا وأساليب متعددة. في بعض الأحيان يحدث انشطار فتظهر، عندما نعبر النهر أو البحر الذي يفصل بين المنطقتين، ساكنة والتي مع مرور القرون تنسى بداياتها. في حالات عديدة، تزدهر المدينة الجديدة أكثر من الأولى الشئ الذي يجعل علماء التاريخ و المؤرخين الرسميين في حيرة من أمرهم. وفي حالات أخرى تكون الضفتان حاجزا بين الفقراء و الأغنياء، في هذه الحالة تكون النتيجة: مدينتان مختلفتان.
وفي حالات غريبة تخلق المدينتان في نفس الوقت، لأن زعمائها لم يتوصلوا إلى اتفاق، أو لأن هناك عداوة بين القبيلتين، أو بين أخوين قررا العيش في ضفتين متواجهتين. يحدث أيضا أن يكون الإزدهار بالتناوب بين المدينتين الشئ الذي يجعل تحديد الأقدمية شيئا لا يطاق. هذه الصعوبة كانت وراء تكوين أشخاص كرسوا حياتهم من أجل ذلك: البحث في أعمار المدن.
ولكن أكبر معضلة في هذه الظروف هي أن شهرة إحداهما تغيّب في ذاكرة الرحالة وجود الأخرى. فيبدو هذا غير مقبول ، بالطبع، بالنسبة للجيران الأقل حظا. ومع ذلك فالأشياء تحدث على هذا المنوال. هذا ما وقع مثلا لألمادا Almada ، نيطوري Niteroi وأسكودار USKUDAR. .بودابست Buda Pest تعاهدتا على الاندماج منذ زمن بعيد.
حينما أصبحت الرباط تضم القصبة وما كان يعرف بسلا الجديدة، أصبحت سلا الحالية، و التي كانت تسمى أيضا سلا القديمة، في حالة صعبة. لهذا السبب، اتخذت مرة إجراءات سرية كان الهدف منها حماية المدينة من ذاكرة الرحالة السيئة. بهذا الشكل يمكن لعديمي الذمة والسذج الذين يرتادون أزقتها ألا يخرجوا منها أبدا. لقد صادفت شخصيا أجانب في سن التسعين، مائة وربما مائة وسبعة وسبعين سنة، بأسمال رثة وجائعين يهيمون كالمنبوذين في السوق الذي أصبح مرتعا للكثير منهم. الحقيقة هي أنه عندما يلج الأجنبي أزقة المدينة القديمة بمتاهاتها الضيقة و المعقدة يواجه مغامرة فريدة من نوعها، حيث يجد نفسه يتجول في دروب صغيرة صممت من أجل البشر و الدواب. والأدهى من ذلك أن بعضها مغطى دائما بالحصير الذي لا يتسرب منه إلا ضوء خفيف ناعم لحماية السابلة من قيظ الحر و من النور الوهاج، الشئ الذي يجعلهم يضلون بسهولة عن وجهتهم. بعض الأجانب، وبخاصة القادمين الجدد منهم، يسهل التعرف عليهم: أغلبهم، و لعورهم الإرادي، يتشبثون بعادة غريبة، عادة تأمل العالم من خلال ثقب الآلة التي تتدلى من أعناقهم. لكن الوضعية تزداد تعقدا نظرا لسببين. يرفضون، من جهة، الموت لأنهم لم يستطيعوا رغم حالة الإستعجال، التعرف على مكان المقبرة، ولكونهم ينظرون إلى الأشياء من خلال عاداتهم لا يدركون أن ذلك المرج المزروع بنصب مجهولة و الموضوعة في نفس الإتجاه هو المأوى الأخير لأغنياء وفقراء هذه البلدة، يرقدون هكذا مجتمعين، دون فوارق أو امتيازات. من جهة أخرى، مجموعة كبيرة منهم، بدون قدرة على التمييز كما هو واضح، لم تجد يدا حنونا تقودها إلى ضريح سيدي أحمد بن عاشر، وإذا كان التيه ظرفيا فهم غير مستعدين في لحظات رشدهم للمعجزة.
كانت الأمور على هذا المنوال بالنسبة لسكان سلا حتى أصبحت الوضعية لا تطاق. هكذا وباندفاعة يائسة، اقترح أحدهم انتظار يوم الجمعة، اليوم المقدس الذي تتجه فيه كل الأفكار للباري تعالى، و حيث أن عدم ارتداء الجلباب الأبيض حول المساجد و المصلات المطلة على البحر سيشي بالدخلاء العجزة و الحمقى، لأن كل سكان سلا يحافظون بغيرة عن تقاليدهم وعلى لباسهم الديني. كانت الخطة هي إبعاد هؤلاء الدخلاء بإرغامهم على عبور الجسر في اتجاه الرباط.
سكان الرباط، الذين ما أن علموا بالخطة السلاوية، حتى وضعوا حراسا، ليلا ونهارا، على طول الضفة وبجوار الجسر. سنوات بعد ذلك، أقلع سكان سلا عن هذه الفكرة لأنها مستحيلة التحقق. وفي تاريخ لاحق اقترح تطبيق ما كان مقررا باقتياد هذه القافلة الغريبة حتى غابة معمورة. لكن شيخا معمرا ذكر الناس بخطر مواجهة الخيارم، وبما أن آخر واحد من هذه الحيوانات قد أبيد منذ عقود بمنطقة أوطاط الحاج، لا أحد كان بمستطاعه تذكر هذه الفصيلة من الحيوانات. ولأنهم يجهلون أي نوع جهنمي من الكائنات سيواجهونه، اعتبروا المسألة في غاية الجرأة وخطيرة أكثر من اللازم.
بعد ذلك بسنوات راجت إشاعة مفادها أنه يتم إعداد قوارب كبيرة لإبعاد التائهين وتركهم على الضفة. فتدفق المياه من جهة و القدر من جهة ثانية سيتكفلان بدفعهم عبر البحر حتى أوربا. لكن مجموعة كبيرة من سكان الرباط حاولت إجهاض العملية، فانتصبوا من جديد حول النهر وضاعفوا المراقبة من كل جهة، خوفا من أن تكون رياح معاكسة أوتيارات بحرية قوية وراء جنوح مراكب المجانين على ضفتهم. فأصبحت القضية خطيرة لدرجة أن أرواح القراصنة التي تظهر عادة في الليل مع رذاذ المرطم الضبابي، وبعد صلاة العشاء، احتجت بقوة خوفا من أن تصبح فضاءاتها السحرية مكتسحة.مستنكرين الجلبة التي تسمع ليلا، تنازل سكان سلا في الأخير عن خطتهم.
أخبرني الصياد الذي يحوم حول الضريح عن حملة أخرى جديرة بالإهتمام. لقد كان الهدف منها هو ترحيل تلك الجماعة في ليل لائل حتى تخوم القنيطرة، على أمل أن تكون ساكنتها تجهل أصل ا لمغرر بهم، فتقودهم جهة الشمال: على الأرجح إلى طنجة. لكن على ما يبدو كانت ستظهر، بدون شك، مشكلة أكثر تعقيدا. فأمام أمواج جبل طارق العاتية كانت الغاية هي تسهيل عبور هذه الشرذمة من المجانين إلى الجهة الأخرى، وبذلك كان سيشعل فتيل حرب صليبية جديدة.
في تلك الأثناء، علمت من مصدر موثوق أن مجلس المدينة يزمع تقنين دخول الزوار إلى فضاءاتهم الحميمية بدون رفقة مناسبة. ومع ذلك فسكان سلا لم يعودوا يرغبون في أن يتذكرهم أحد.