[size=21]ذو الحدين
إن اللسان سلاح ذو حدين، فإما أن يرفع صاحبه إلى ذرى التأثير والمجد أو يهوي به إلى مهاوي الردى، ولذا حذر منه ونبه إليه العقلاء والحكماء عبر التاريخ.
سأل رجل رجلاً عن عمره قائلاً: كم سنك؟ فقال: اثنان وثلاثون، ستة عشر من أعلى ومثلها من أسفل. فقال: لم أرد هذا، أردت كم لك من السنين؟ فقال: ما لي منها شيء، كلها لله. فقال: هذا حسن، ما سنك؟ قال: عظم. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن اثنين، أبي وأمي. قال: أقصد: كم أتى عليك؟ قال: لو أتى علي شيء لقتلني. قال: أرشدني، كيف أقول؟ قال: قل: كم مضى من عمرك؟
ولقد وقف هيوستن (سنة 1830م) أمام الكونجرس الأمريكي يخطب خطبة بليغة لم يستعمل فيها كلمة مرتين، فسحر ألباب الرجال الذين كانوا أمامه، وكان قد نجح لتوه في تسكين ثائرة الهنود الحمر وجلبهم إلى توقيع اتفاقات مع الحكومة، فاستدعاه الرئيس الأمريكي آنذاك وقال له: إن تكساس تتبع المكسيك، ومستقبل أمريكا متعلق بها، ولا بد من ضمها، وأريدها منك.
فقال هيوستن: نعم أنا لها، زودني بمال ورجال، قال الرئيس: لو كان عندي مال ورجال ما دعوتك، بل تذهب منفرداً وبلا دولار، وأبعث معك حارساً حتى تعبر نهر المسيسبي ويعود.
ومع ذلك قَبِلَ هيوستن المهمة، وودعه الحارس على ضفة النهر، واندفع نحو تكساس، فلما دخل أول مدينة بها فتح له مكتب محاماة، فكان المدّعي في المحكمة يخرج متهماً والمتهم بريئاً، لبلاغته وقوة لسانه، حتى انبهر به الناس فلاذوا به، فتلاعب بمفاهيمهم وأخيلتهم، وغرس فيهم معنى ضرورة الاستقلال، ثم غرس معنى وجوب الانضمام إلى الولايات المتحدة، فانضمت طواعية بالقناعات التي غرسها هيوستن.
وجاء هيوستن بعد سنوات قليلة إلى الرئيس الأمريكي وسلّم مفتاح تكساس، إذ لم تطلق طلقة أمريكية واحدة، ولم يصرف دولاراً واحداً، فشكره الرئيس، وخلدوا عمله بإطلاق اسمه على مدينة هيوستن التي هي الآن من أهم مدن أمريكا وعاصمة النفط فيها.
ورُوي أن قبيلة من قبائل العرب كانت تُسمَّى قبيلة "أنف الناقة"، وكانت مستهجنة بين العرب، لهذا الاسم، وذات يوم استضاف أحدهم الحطيئة فأكرمه ثم طلب منه حلاً لهذه المعضلة، فقال الحطيئة فيهم بيتاً واحداً من الشعر قلب فيه سمعة بني أنف الناقة رأساً على عقب، ترى ماذا قال فيهم؟ وما الكلمات التي نطق بها لسانه فغير من واقع الأمر وبلغ تأثيره جميع منتسبي هذه القبيلة؟ قال:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
فمن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا؟
الحطيئة بهذا البيت يصف هذه القبيلة بأنها الأنف، وهو رمز العزة والأنفة والكبرياء، ويصف باقي قبائل العرب بأنهم ذنب وتبع لهذه القبيلة، لذا صار كل واحد من أفراد هذه القبيلة يفرح أنه منها ويفتخر بذكر قبيلته عندما يُسأل من أي قبيلة هو، بينما كان يتحاشى هذا السؤال من قبل ويتوارى من الخجل عند مواجهته، بل قيل إن أحدهم كان له سبع بنات لم يتقدم إليهن أحد، وبعد كلام الحطيئة هذا تسابق العرب على خطبتهن، فخُطبن جميعاً في يوم واحد.
وتأمل معي ما حدث لأبي الطيب المتنبي الشاعر الفحل، الذي تبارى في الكتابة عنه ودراسة شعره كافة جهابذة اللغة والأدب العربي قديماً وحديثاً حتى قال ابن خلكان (وفيات الأعيان 1-63): "واعتنى العلماء بديوانه فشرحوه، وقال لي أحد المشايخ الذين أخذت عنهم: وقفت على أكثر من أربعين شرحاً لديوان المتنبي ما بين مطولات ومختصرات، ولم يُفعل هذا بديوان غيره".
لقد بلغ المتنبي مبلغاً عظيماً، واستفاد من شعره خلق كثير، وبلغت شهرته الآفاق، وعَبَر تأثيره القرون والقارات، وكل ذلك بسبب استثماره للكلمة وحرصه على لسانه. ولكنه دفع الثمن غالياً لما استخدم لسانه في غير ما خُلق له، فهجا وأساء إلى الآخرين، حيث هجا المتنبي ضبة بن يزيد الأسدي العيني بقصيدته البائية، وكان عائداً من شيراز إلى بغداد فعرض له فاتك بن أبي جهل الأسدي "وهو خال ضبة بن يزيد" في الطريق بجماعة من أصحابه، ومع المتنبي جماعة أيضاً، فاقتتل الفريقان، فقتل أبوالطيب وابنه محمد وغلامه مفلح بالنعمانية في الجانب الغربي من سواد بغداد (راجع الأعلام للزركلي، ج1، ص 115).
إذن هو اللسان، ذو الحدين، فالعاقل من يستفيد من الحد النافع الأول، ويتجنب الحد الفاتك الذي لا خير فيه.
-------------------------
بقلم: د. علي الحمادي – مجلة المجتمع
سابقوا
( سَابِقُوا إِلَىمَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِأُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِيُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم )
ليس السباق إلى إحراز اللهو واللعب والتفاخروالتكاثر، إنما السباق إلى ذلك الأفق ، وإلى ذلك الهدف ، وإلى ذلك الملك العريض: (جنة عرضها كعرض السماء والأرض ) .. نعم إنه سباق؛ بكل ما تحمله الكلمة من تشميروتحفز وبذل أقصى ما في طاقة الإنسان من تدريب قبل السباق ومن طاقة وجهد أثناءالسباق.
فالخير قريب جدا من الإنسان، وكذلك الشر قريب منه جدا، فلهذا حثه اللّهتعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال اللّه تعالى: ( سابقوا إلى مغفرة من ربكموجنة عرضها كعرض السماء والأرض ) ، وقال ههنا: ( أعدت للذين آمنوا باللّه ورسلهذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم )، أي هذا الذي أهلهم اللّهله هو من فضله عليهم، وإحسانه إليهم. فذلك الملك العريض في الجنة يبلغه كل من أراد، ويسابق إليه كل من يشاء . وعربونه : الإيمان بالله ورسله . ( ذلك فضل الله يؤتيهمن يشاء ) .. ( والله ذو الفضل العظيم ) .. وفضل الله غير محجوز ولا محجور .. وفيهذا فليتسابق المتسابقون.
-------------------
المصدر: مجلة نداء الإيمان
[/size]