اغتيال التراث الفلسطيني.. اغتيال الهوية
مهند صلاحات/عضو تجمع الكتاب والأدباء الفلسطينيين
منظومة التراث هي أهم الشواهد الحقيقية على إثبات الهوية للشعوب، والدفاع عن التاريخ الضارب في عمق الأرض، هو دفاع عن الحضارة والفكرة والمستقبل أيضاً، والتراث الفلسطيني الذي يعاني مرحلة حرب وتقلص وسرقة ونهب يعاني في الوقت الحالي من أزمة ينطوي عنها أزمة في الحقوق الفلسطينية أولا وأزمة في إثبات الهوية الفلسطينية الفكرية والثقافية والسياسية أيضاً، لأن التراث والتاريخ الفلسطيني أغنى مقومات عدالة القضية الفلسطينية والسلاح الأقوى في المعركة الدائرة مع العدو الصهيوني الذي لا يتوانى لحظة عن نهب هذا التراث وتشويه معالمه ومحاولة سلخ الشعب عن هويته التاريخية الأصيلة.
فالمعركة مع العدو الصهيوني تتخذ عدة أوجه أبرزها على الأرض الصراع المسلح وصراع الوجود الذي ينطوي تحته معركة الدفاع عن الهوية والموروثات والعادات والتقاليد والقيم الموروثة.
ولأن الثورة الفلسطينية لم تحقق النجاح المطلوب عبر السنوات الماضية، وسبب هذا الإخفاق عزاه الكثيرون من المحليين والمفكرين لعدة وجهات نظر مختلفة فمنهم من يرى أن السبب الحقيقي هو: أن هذه الثورة تحتاج على ثورة أخلاقية تسبق السلاح، والبعض الأخر يرى أن سبب الإخفاق: الفشل لأن الثوار حملوا البندقية دون فكر، وفي النهاية جميع وجهات النظر تصب في ذات المصب وهو أن هذه الثورة بكل مقوماتها عانت الكثير من البعد عن قيمتين أساسيتين هما: القيمة الأخلاقية إلى حد ما والقيمة الفكرية فكانت الفوضى تعم التنظيمات والانتفاضات، إلى جانب نقص العمود الفقري المحرك للثورة، وهو المنظومة الفكرية الواحدة، فقد تشتت التنظيمات في الأطروحات، فمنها ما تبنى الواجهة الرأسمالية، والأخرى أخذت الطابع الديني بشقيه العاطفي والفكري، وأخرى تبنت الواجهة القومية، وأخرى الماركسية أو المزج بينهما.
لكن الفكرة المشتركة التي جمعت هذه التنظيمات هو الهدف في التحرير وحماية الفكرة والقضية، ولأن التراث والتاريخ هو لبّ القضية فإن هذه المنظومة التراثية لم تجد العناية الكافية من قبل هذه التنظيمات بعد حالة التشتت الأخيرة في السنوات الخمس الماضية.
ولأن التراث هو شاهد الحضارة ورائحة الأجداد، وأغاني الجدات الطيبات ليلة الميلاد والعيد وقبل النوم فهي جديرة بأن نقف وقفة جادة أمام أي محاولة لضرب هذا التراث وسلخه عن مجرى الصراع والقضية.
والتراث الفلسطيني الذي يتميز بخصوصية عالية جداً، فإن الإساءة إليه تعتبر إساءة للقيمة الإنسانية والحقوق الفلسطينية كاملة والحقوق العربية، وعبر مسيرة الصراع الدائرة مع هذا العدو وما سبقه من احتلال بريطاني ومن قبل دولة أتاتورك، والشعب الفلسطيني بكافة شرائحه من الفلاح إلى الكاتب والأديب مروراً بالعامل والصحفي والمعلم يتصدون لكل محاولة من الاحتلال وغيره لتشويه القيمة التراثية.
ومحاولة الاحتلال الإساءة لهذا التراث لا تعيب الشعب الفلسطيني ذاته، لكن ما يسيء هو أن يقوم المجتمع ذاته أو بعض أفراده بالإساءة لهذه القيم الموروثة الراسخة، فإساءة المجتمع للقيم التراثية يعني انسلاخه عن هويته وبالتالي انسلاخه عن قضيته وحقوقه المشروعة، وبالتالي تعكس هذه الإساءة حالة من الجهل التي توغلت في صفوف المجتمع والتي يجب الوقوف بوجهها وقفة جادة وحقيقية، ويقع على عاتق جميع فئات المجتمع الفلسطيني سواء في الداخل أو الشتات بناء جسر يعيد بناء ما تم هدمه وإعادة وصل ما تم كسره بين الشعب والتراث.
ما دعاني لأن أطلق صرخة حماية التراث والفكرة الفلسطينية والموروثات الفلسطينية لم يكن ناتجاً عن مشاهدة عادية أو قراءة في كتاب عن محاولة العدو الصهيوني لضرب التراث بقدر ما كانت مشاهد يومية مؤسفة شاهدتها أثناء زيارتي الأخيرة لفلسطين، لأطلق صرخة عالية تصل لكل فلسطيني وعربي في كل أرجاء الأرض:" تكاتفوا لحماية التراث الفلسطيني، فناقوس الخطر يدق".
ففي زيارتي الأخيرة لمدينة بيت لحم الفلسطينية صادف حضوري في إحدى اكبر مخيماتها الإعداد لأحد الأعراس الفلسطينية في المخيم، وقد ارتأيت أن تكون مناسبة وفرصة سانحة لأن أعيد لذاكرتي أغاني التراث والثورة والتي كنا نرددها في الأفراح ومواسم الحصاد وغيرها، وبدأ شريط الذاكرة يستعيد كلمات الأغاني القديمة حول حق العودة والثورة والحق المسلوب وأناشيد الحصاد والتغني بالأمجاد، سرعان ما بدد بل وقطع هذا الشريط بشكل رهيب ومخيف انطلاق الأصوات العبرية معلنة بدء الحفل بطريقة مخزية.
ظننت بالبداية أن خطأ ما حدث في مكبرات الصوت تسبب بخروج هذه الأغاني صدفة، فانتظرت قليلاً علّ أحدهم يتدارك الخطأ لكن الصدمة بدأت تكبر حين وجدت الحضور ينظر للأمر بشكل عادي وطبيعي، بل وبدأ الرقص على الموسيقى العبرية والكل يردد خلف الأغاني التي ترددت في أرجاء المخيم ، وكأن الدبابات والصواريخ العبرية لم تدك هذا المخيم منذ أشهر ولم تتردد ذات أصوات الصواريخ العبرية في نفس المكان الذي تردد فيه هذه الأغاني ولم تسرق زهرات شبابه، وكأن شباب هذا المخيم الذين رقصوا طرباً لهذا لم يكونوا من قبل معتقلين لدى الدولة العبرية ولم يزل جزء منهم في المعتقلات.
بالنسبة لي كان وقع الصواريخ والدبابات على المخيم اقل وطأة من هذا الصوت النشاز الذي ضج بالمخيم، فارتأيت مغادرته وفي داخلي وجع يحدثني بأن هنالك خطوطاً زرقاء تحاصر المكان.
جريمة كبرى نرتكبها بحق أنفسنا أولاً، وبحق التراث والموروث الحضاري والقيمة الأخلاقية فينا، وقبل ذلك كله بحق الإنسان والإنسانية وبحق الشهداء والجرحى والأسرى خلف القضبان العبرية، والتنظيمات الفلسطينية التي من واجبها أولاً التصدي لمثل هذه الظواهر الشاذة التي بدأت تنتشر في المجتمع الفلسطيني نراها غارقة في نزاعاتها الداخلية وتصارعها على السلطة ومقاعد المجالس المحلية في الانتخابات وكان الأمر لا يعنيها.
لذلك كان لا بد من هذه الصرخة أن تنطلق عبر كل الصفحات الممكنة لتصل لكل عربي وفلسطيني في كل مكان في الأرض ولكل الفصائل الفلسطينية والمنظمات الثقافية والأهلية العربية والفلسطينية للتصدي لكل ما هو مؤذي من ظواهر مستحدثة في المجتمع الفلسطيني بكل الوسائل والسبل، كي يظل الحق الفلسطيني محفوظاً وراسخاً.
ناقوس الخطر يدق من أكثر المناطق الفلسطينية حساسية، من قلب المخيم الفلسطيني الذي كان في السابق يعتبر من اكبر حراس الهوية الفلسطينية التي تدل الشواهد أنها الآن تعاني حالة انتحار بانسلاخها عن تراثها وهويتها، أوقفوا هذا الانتحار الجماعي في صفوف شعبنا.